الأربعاء، 12 مارس 2008

مقالة عن ثمرة الحكمة

لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وغرز في عقله محبة العلم والحكمة ، والصلاة والسلام على رسول الله الذي علمه الله وأمره أن يعلم الناس ، فانفتحت لهم برسالته أبواب التفكير والمعرفة ، وبعد . أبو علي الحسن بن الحسن أو كما يسمى أحيانا : محمد بن الحسن بن الهيثم(1) عالم في تاريخ العلم بين المسلمين وفي تاريخ العلم العالمي بفضل اجتهاده في البحث عن الحقائق وعكوفه على طلبها في ميادين العلم بمعناه الخاص وذلك من غير إغفال لحياة الفكر في الإسلام وحضارته . تفرغ ابن الهيثم للعلم منذ وقت مبكر من حياته في زهدٍ رفيعٍ وقناعةٍ نادرةٍ فدرس مؤلفات الفلاسفة خصوصاً أرسطو وجالينوس وبطليموس واقليدس ، وشرح منها الكثير وكان ينعم النظر فيما يقرأ ويدرس فينقد بعد فهم دقيق وقد استطاع أن يضع معياراً للمعرفة الصحيحة من جهة وأن يجدد المعرفة بوجه عام من جهة أخرى وأن يبتكر من جهة ثالثة . وهذا الابتكار يتجلى في نقده لمذاهب القدماء واكماله لأبحاثهم نجد ذلك مثلا في كتابة << الشكوك على بطليموس >> (2) وكتابه << حلّ شكوك كتاب اقليدس في الأصول >>(3) وفي مقدمة ابن الهيثم للكتابين شئ من نوع اهتمام هذا العالم وروحه وغاياته العلمية وخلقه العلمي . على أنه إذا كان عالمنا قد نبغ وجدّد في دراسة الفلك والرياضيات فإن أبحاثه في علم الطبيعة وخصوصا كشوفه في علم "البصريات Optics " - أو " علم المناظر " كما سماه هو هي التي دعت مؤرخي العلم إلى القول بأنه مؤسس علم الضوء بمعناه الحديث . والحق أنه قلب النظرية القديمة في كيفية حدوث الإبصار رأساً على عقب بأن أثبت أن الإبصار لا يكون بشعاع يخرج من العين كما تصور القدماء بل بانعكاس الضوء من المبصرات ووصوله إلى العين ، وقد اخترع ابن الهيثم من الأجهزة والآلات ما مكنه من البحث العلمي الدقيق ومن الوصول إلى ما انتهى إليه من نتائج . لكن عمل ابن الهيثم لم يقتصر على تصحيح تصورات القدماء ونظرياتهم وإنما توصل أيضا بكشوفاته إلى استحداث فروع جديدة في علم البصريات شرحها العلماء الذين درسوا إضافاته بـل هـو أيضا فـي ثنايا كلامه في الإبصار لمس علم الجمال بما شرحه في كتاب " المناظر " من عوامل تؤثر في إظهار الحس وإدراكنا له ، وهو هنا قد تكلم بلسان العالم الطبيعي الرياضي ومشاهداته لما يبصره لا بلسان الشاعر أو الفيلسوف الخيالي ، ويقول بكل إيجاز أنه تفطن إلى الأمور الجزئية التي تبرز الجمال في المرئيات بانفرادها وباقترانها : الضوء ، اللون ، البعد المناسب ، الوضع ، الشكل ، الحجم المناسب ، تماثل الأقسام ، وخصوصاً الائتلاف والتناسب في الأجزاء . وإدراك الحسن عند عالمنا أمر نفسي ، لأن تلك الأمور تؤثر في النفس (4) . ونحن لا نستطيع في هذا المقام أن تدخل في تفاصيل آراء ابن الهيثم العلمية ومن أراد معرفة كشوفه البصرية فعليه بكتاب العالم الفاضل مصطفى نظيف رحمه الله : " الحسن بن الهيثم : كشوفه البصرية " القاهرة 1942 - 1943 . هذا وقد عقدت مؤتمرات علمية عنيت بابن الهيثم (5). لكن لا أقل من أن نشير إلى منهج ابن الهيثم في البحث وطريقته في نقد المعرفة العلمية وتجديدها لأنه في هذين المجالين سار بالمنهج خطواتٍ تستحق أن تسجل له كما سجلت لعلماء الاسلام قبله . " منهج جابر بن الحيان " . كان جابر لن حيان الذي عاش بين حوالي 120 و 200 هـ هو الذي وضع قواعد المنهج في علم الكيمياء على أساس نظري : هو أن الأجسام كلها ترجع إلى أصول واحدة وأن الاختلاف بينها يرجع إلى تفاوت النسب والمقادير في تركيبها وأيضاً على أساس الاعتماد على التجربة ونتائجها وهذا ما يقصده بألفاظ نجدها في كتبه مثل " الاختبار " ، " التدبير " ، " الدربه " . وكان منهجه يتألف من : تصور أعني فكرة يكونها العقل من دراسة الطبيعة ومن تنفيذ لمشروع مبني على التصور ثم تمحيص يأتي بعد ذلك وهذا ما يؤخذ من عبارة لجابر عن شئ صنعه : " لقد عملته بيدي وبعقلي من قبل وبحثت عنه حتى صح وامتحنته فما كذب " ( كتاب الخواص في رسائله ، ص 322 مطبوعات جامعة فؤاد الأول القاهرة ) .
منهج ابن سينا ثم جاء ابن سينا ( ت 428 هـ / 1037 م ) فكان منهجه في الطب مثلا يعتمد على استبعاد الاستدلال النظري في أمور العلاج وعلى التجربة ، وهو قد أعطانا مثالا جيداً للتجربة على الدواء من حيث تأثيره في المرض بحسب شروطٍ وضعها لامتحان الدواء ، وهذا ما نجده مفصلا في كتاب " القانون " ( مجلد 1 ص 163 - 164 ) . ونحن لو وضعنا منهج الشيخ الرئيس هنا بإزاء طرق الفيلسوف الانجليزي J. .S.Mill لوجدنا الشبه كبيراً فيما يتعلق بتحديد التأثير الحقيق للدواء في المرض وهذا ما قد لاحظه أيضا المتخصصون في دراسة ابن سينا - راجع مادة " ابن سينا " في دائرة المعارف الإسلامية الطبعة الجديدة - مقال ...... A.M.Goichon .
فلما جاء ابن الهيثم كان من أول الأمر قد وضع من حيث المبدأ معياراً للمعرفة الصحيحة في مجال البحث في العلم الطبيعي وهو أن تكون المعرفة معتمدة على الحس والعقل معاً ، كما سنذكر ذلك فيما يلي ، فلما أراد البحث فيعلم " البصريات " تصور منهجا نجد عناصره في أوائل كتابه " المناظر " . يبتدئ المؤلف بالإشارة إلى أبحاث السابقين له في بحث الموضوع واجتهادهم في البحث واختلافهم في الآراء ويلتمس لهم العذر في عدم الوصول إلى اليقين بسبب التباس الحقائق وغموض الأمور " اللطيفة " وكثرة الشبهات وأخطاء الحواس مما يؤدي إلى تضارب الآراء وتعدد المعرفة اليقينية .
منهج ابن الهيثم ونقده للمعرفة العلمية وهو بعد أن يشرح كيف أن البحث في الإبصار والمبصرات يجمع بين النظر في العلوم الطبيعية والنظر في العلوم التعليمية ( أي الرياضيات ) يذكر الآراء المأثورة حول الموضوع ويخص بالذكر النظرية القديمة في كيفية الإبصار - وقد أشرنا إليها فيما سبق - ويبين اختلاف أصحابها في الاستدلالات والنتائج مما لا يتوفر معه يقين بعد هذا نقرأ لابن الهيثم عباراتٍ نستشف منها عناصر منهجه وهي قوله : " ولما كان ذلك كذلك رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان ونخلص العناية ونوقع الجدّ في البحث عن الحقيقة ونستأنف النظر في مبادئه ومقدماته .... ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات ونميز خواص الجزئيات ، ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حالة الإبصاروما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه في كيفية الإحساس ، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء ، فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين ، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول عندها الخلاف ، وتنحسم بها مواد الشبهات وما نحن مع جميع ذلك براء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية ولكنا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور " ( كتاب المناظر ص 62 ) .
هذا كلام ابن الهيثم أمام القارئ الذي يجب أن يتأمل كل كلمة فيه ويقف عند كل فكرة وراءها وهو سيتبين عند التحليل أهم أصول المنهج العلمي الحديث . أما طرقة ابن الهيثم في نقد المعرفة العلمية وتجديدها أو إكمالها وكذلك جملة روحه وخلقه العلمي واهتمامه بالحقيقة العلمية واجتهاده في الوصول إليها وتقديمها لمن بعده فنحن نقرأ عنها في مصنفاته التي تناول فيها ما ألفه السابقون بالدراسة ، ومن أمثلتها ما نقرؤه في مقدمة كتابه " الشكوك على بطليموس " الرياضي الفلكي الإغريقي الذي عاش في الإسكندرية وظل لمؤلفاته تأثير حتى أوائل العصور الحديثة عندما بدأ النقد في الغرب للتصور القديم للعالم ، وما نقرؤه أيضا في مقدمة كتابه حل شكوك كتاب اقليدس في الأصول وشرح معانيه .
ونظراً لأهمية نص كتاب " الشكوك " (6) فإنا ننقله كاملاً وندعو القارئ لكي ينعم النظر في كل عباراته وما ترمي إليه ، ويرى كيف انطبع مفهوم الحق واحترامه في عقل المفكر المسلم وكيف تخلق هو بخلق الإنصاف للمجتهدين في طلب الحق من غير تساهل في أمره ومع الأمانة عليه والحرص على تخليصه من الشوائب والظنون - وهذا ما اكتسبه العالم المسلم من القرآن وما اشتمل عليه من أمر العلم والحق والعدل ليكون رائد المفكر . يقول ابن الهيثم : " الحق مطلوب لذاته وكل مطلوب لذاته فليس يعنى طالبه غير وجوده(7) " . " ووجود الحق صعب ، والطريق إليه وعر ، والحقائق منغمسة في الشبهات ، وحسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس " . " فالناظر في كتب العلماء ، إذا استرسل مع طبعه ، وجعل غرضه فهم ما ذكروه وغاية ما أوردوه ، حصلت الحقائق عنده هي المعاني التي قصدوا لها ، والغايات التي أشاروا إليها " . " وما عصم الله العلماء من الزلل ، ولا حمى علمهم من التقصير والخلل ، ولو كان ذلك كذلك لما اختلف العلماء في شئ من العلوم ، ولا تفرقت آراؤهم في شئ من حقائق الأمور ، والوجود(8) بخلاف ذلك " . " فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين ، المسترسل مع طبعه في حسن الظن بهم ، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم ، المتوقف فيما يفهمه عنهم ، المتبع الحجة والبرهان ، لا قول القائل الذي هو إنسان المخصوص في جبلته بضروب الخلل والنقصان " . " والواجب على الناظر في كتب العلوم إذا كان غرضه معرفة الحقائق أن يجعل نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه ويجيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه ، ويخصمه(9) من جميع جهاته ونواحيه ، ويتهم أيضا نفسه عند خصامه ، فلا يتحامل عليه ولا يتسمح فيه فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق وظهر ما عساه وقع في كلامه من تقدمه من التقصير والشبه " .
" ولما نظرنا في كتب الرجل المشهور بالفضيلة المتفنن في المعاني الرياضية المشار إليه في العلوم الحقيقية أعني بطليموس القلودي وجدنا فيها علوماً كثيرة ، ومعاني غزيرة كثيرة الفوائد عظيمة المنافع ، ولما خصمناها وميزناها وتحرينا إنصافه وإنصاف الحق منه وجدنا فيها مواضع مشبهه وألفاظاً بشعة ، ومعاني متناقضة ، إلا أنها يسيرة في جنب ما أصاب فيه من المعاني الصحيحة " .
" فرأينا أن في الإمساك عنها هضماً للحق وتعدياً عليه وظلماً لمن ينظر بعدنا في كتبه في سترنا ذلك عنه ووجدنا أولى الأمور ذكر هذه المواضع وإظهارها لمن يجتهد من بعد ذلك في سد خللها وتصحيح معانيها بكل وجه يمكن أن يؤدي إلى حقائقها " .
بعد هذا يقول ابن الهيثم أنه إنما يريد تصحيح المعرفة عند تناقض الأحكام على الأشياء على أساس أن الطبيعة تحكمها قوانين مطردة وأن الأحكام لا يصح أن تتناقض . أمـا فـي كتابـه " حل شكوك اقليدس في الأصول " فإنه تكلم في المقدمة كلاماً نفيساً يبين فيه الأسباب والأحوال التي تدعو إلى الشك - بمعنى الاعتراض - في الأمور الخفية خصوصا في العلوم العقلية والمعاني البرهانية " وذلك بالنظر إلى تفاوت الناس في العقل والتمييز وأن الواحد منهم لا يقتنع برأي غيره إلا إذا تشكل الموضوع في عقله هو وبحسب تفكيره الشخصي . وإذا كان من هو ضعيف التمييز الذي لم تتشكل صحة الآراء في عقله يسرع إلى الاعتراض فإن أكثر ذوي التميير أيضا لا يدركون الأمور اللطيفة والحقائق الخفية لأول وهلة فيعرض لهم الشك .... لكن ذلك لا يكون له معنى إلا إذا كان هناك دليل على صحة ما يشكون فيه فإذا أقيم لهم الدليل لم يكن ذلك حلا لشك بل جواباً على نوع استفهام أو ما يجري مجرى الاستفهام.
ثم إذا كان الدليل بيناً زال الشك ، أما إذا كان غامضا أو مشتبهاً فإنه يمكن الاعتراض عليه ، وهنا يكون الاعتراض شكاً يجب حله . وعلى هذا المنهج يسير ابن الهيثم في حله لشكوك كتاب اقليدس في الأصول وهو أيضا يبين طرقاً لحلها غير طرق الرياضي الإغريقي ويجتهد في تقديم براهين مباشرة - وهو يسميها : مستقيمة - بدلا من براهين " الخلف " المأثورة وهي براهين غير مباشرة وكل ذلك عند ابن الهيثم من غير استنادٍ إلى " العلل القريبة " وحدها بل إلى " العلل الأولى البعيدة " التي هي أسس الاستدلال الرياضي والتي لم يسبقه إليها أحد من المتقدمين ومن جاء بعدهم .
فإذا عرفنا أن ابن الهيثم كان من قبل قد ألف في " شرح مصادرات اقليدس " فإنه في كتابه الجديد في حل شكوك كتاب " الأصول " أثار كل ما يمكن من الاعتراضات على آراء الرياضي الإغريقي وقدم الحلول لها ، وبذلك استوفى دراسة هندسة اقليدس من جميع الوجوه. وهو إذا كان على أساس دراسته والهيئة قد سمي " بطليموس الثاني " فما أحراه بأن يسمي أيضا " اقليدس الثاني " - ولإن كان في عمله وبفضل منهجه النقدي قد تقدم بالمعرفة شوطاً جديداً ستكشف عنه الأيام بعد نشر كل آثاره العلمية وكشف ما يمكن أن يكون هناك من تأثير لنقد غبن الهيثم لآراء بطليموس في العلم الإسلامي بعده ، ثم في العلم الأوروبي (10) في أوائل العصور الحديثة . ولكي نكمل التصور لطريقة عالمنا نضع أمام القارئ كلامه في أول كتابه الذي أشرنا إليه بعد أن لخصناه تسهيلا على القارئ هو يقول : " كل معنى تغمض حقيقته وتخفى بالبديهة خواصه ويشابه في بعض أحواله غيره فالشك متسلط عليه وللمعاند والمتشكك طريق مهيع إلى معاندته والطعن عليه ، وخاصة العلوم العقلية والمعاني البرهانية إذ العقل والتمييز مشترك لجميع الناس وليس جميعهم متساوي الرتبة فيهما وليس يذعن واحد من الناس لغيره فيما يدعى صحته بالقياس ولا تصح دعواه في نفسه إلا بعد أن يصح له ذلك المعنى بقياسه تمييزه الذي استأنفه هو وتتشكل صحته في عقله " . " والعاجز المقصر الضعيف التمييز ليس تتشكل صحة المعنى المعقول في عقله في أول تمييزه بل هو في أكثر الأحوال يسرع إليه التشكك في صحته ثم إذا أطال الفكر والتمييز ظهرت له حقيقته وربما لم ينته مع غاية اجتهاده وإطالة الفكر فيه إلى معرفة حقيقته " .
" فأكثر دوي العقل والتمييز الصحيح فضلا عمن هم دونهم إذا مر بأحدهم معنى من المعاني اللطيفة والحقائق الخفية فليس تظهر له تلك الحقيقة بالبديهة وإذا لم تظهر له الحقيقة فقد عرض له التشكك " . " فالتشكك واقع لأكثر الناس في المعاني الخفية " . " ومن جملة المعاني اللطيفة التي من العلوم الحقيقية التي لا يشك الناس في صحة براهينها المعاني التي يشتمل عليها كتاب اقليدس في " الأصول " وهذا الكتاب هو الغاية التي يشار إليها في صحة البراهين والمقاييس " . ومع ذلك فلم يزل الناس قديما وحديثا يتشككون في كثير من معاني هذا الكتاب وكثير من مقاييسه ويتكلف أصحاب علم التعاليم حل تلك الشكوك وكشف فسادها وصحة المعاني المتشكك فيها . وقد ألف في حل شكوك هذا الكتاب كتب ومقالات للمتقدمين والمتأخرين إلا أنا ما وجدنا في هذا المعنى كتابا مستوفيا لجميع الشكوك التي يحتمل أن يعترض بها في معاني هذا الكتاب ولا كتاباً مشتملاً على جلها . ولما كان ذلك كذلك رأينا أن ننعم النظر في شكوك هذا الكتاب ونعتمد إعانته ومعاندته ونخرج كل ما يمكن أن يعترض به في معاني هذا الكتاب ، ونحل كل واحد منها بالبرهان الذي لا شك فيه ونكشف صحة المعنى ونبينه بياناً لا تعترضه(11) شبهة ولا يتطرق عليه قول ونضيف إلى الشكوك أيضا اختلاف الأوضاع التي تعرض للمعنى الواحد التي تتغير بها صورة الشكل ، ونضيف إلى ذلك أيضا في كثير من الأشكال التي يحتمل أن تعمل بوجهين أو بعدة وجوه ، كل وجه يمكن أن يعمل به ذلك الشكل فإن كثيراً من الناس يظنون أن أشكال كتاب اقليدس لا يمكن أن تعمل إلا بالطرق التي ذكرها اقليدس ونضيف إلى جميع ذلك العلل التعليمية(12)في الأشكال العلمية وإن كانت علل المعاني العلمية هي المقدمات التي تستعمل في براهين الأشكال ، فإن تلك العلل هي العلل القريبة والذي نريده نحن في كل شكل هو العلة الأولى البعيدة ، وهذا المعنى ما ذكره أحد من المتقدمين ولا المتأخرين ، ونضيف إلى ذلك أيضا أن نبين الأشكال التي يبينها اقليدس ببراهين الخلف ببراهين مستقيمة ليصير هذا الكتاب مع كتابنا في شرح مصادرات اقليدس شرحاً تاماً لجميع الكتاب " .
" ونبتدئ في الشكوك بالمقدمات المذكورة في المصادرات إذ كانت المصادرات منها ما هو متسلم ومنها ما هو مبين ومنها ما هو محدود " . " وكل متسلم فيحتمل التشكك وكل ما هو مبين بالقياس فقد يمكن أن يعترض على مقدمات قياسه وكل ما هو محدود فيمكن أن يطعن في حده " . " وقد بينا في كتابنا مصادرات كتاب اقليدس صحة المصادرات المذكورة في صدور مقالات هذا الكتاب ، إلا أن الشكوك قد تعرض في المعاني المبينة بالمقاييس ، وإن كانت في غاية الصحة بل ليس يكون الاعتراض شكاً إلا بعد أن يقوم الدليل على ذلك المعنى " . " فأما الاعتراض قبل إقامة الدليل على صحة المعنى فليس هو شك(13) على الحقيقة بل إنما هو استفهام عن المعنى أو ما يجري مجرى الاستفهام فإذا أقيم الدليل على المعنى كان ذلك الدليل هو جواب الاستفهام " . " فإن كان الدليل مقنعا وكان بينا ظاهرا فلا شك في ذلك المعنى وإن كان الدليل مشتبها أو غامضا خفيا أمكن أن يعاند وأن يعترض عليه وكان الاعتراض الثاني حينئذ شكاً " . " فالمقدمات المذكورة في صدر كتاب اقليدس قد شرحناها في كتابنا في شرح المصادرات ونحن الآن نرى أن نعاند جميع المقدمات التي في صدر كتاب اقليدس ونتشكك في كل ما يحتمل التشكك منها ، ثم نحل كل واحد من الشكوك ونبين فساده ونكشف صحة كل واحد من المقدمات ونحررها وهذا حين نبتدئ بالكلام في الشكوك فنقول ....... " .
بعد هذا يدخل ابن الهيثم في نقد آراء اقليدس مبتدئاً بنقد تعريفه للنقطة .... ويتبين من كلام ابن الهيثم في هذا الكتاب أنه يجمع في نقده بين المنطق والفلسفة والتفكير الرياضي .
ابن الهيثم الدؤوب 1. الشك ومعيار المعرفة الصحيحة دخل ابن الهيثم في مجال البحث في الفلسفة والعلم من باب التفكير والشك وكان من أول أمره فتى ذكيا معتزاً بتوثبه العقلي مستنكفا من مماثلة الجاهلين والأغبياء والمقلدين . وهو في مقدمة لمقالة ذكر فيها ما صنفه من العلوم وقرأها ابن أبي أصيبعة بخط عالمنا نفسه قص علينا شيئاً من تطور حياته الفكرية وانتهائه إلى معيار ارتضاه لمعرفة الحقيقة هو يقول : " إني لم أزل من عهد الصبا مرتابا في اعتقادات هذه الناس المختلفة وتمسك كل فرقة منهم بما تعتقده من الرأي فكنت متشككا في جميعه موقنا بأن الحق واحد وان الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه " . " فلما كملت لإدراك الأمور العقلية انقطعت إلى طلب معدن الحق ووجهت رغبتي وحرصي إلى إدراك ما به تنكشف تمويهات الظنون وتنقشع غيابات المتشكك المفتون ، وبعثت عزيمتي إلى تحصيل الرأي المقرب إلى الله جل ثناؤه والمؤدي إلى رضاه الهادي إلى طاعته وتقواه " . وبعد أن يتمثل ابن الهيثم بجالينوس في ازدرائه العوام واشتهائه ايثار الحق وطلب العلم باعتبار أنهما أجود ما في هذه الحياة وأشد ما يقرب إلى الله يقول : " فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع علوم الديانات فلم أحظ من شئ منها بطائل ولا عرفت منه للحق منهجا ولا إلى الرأي اليقيني مسلكا جدداً فرأيت أني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية فلم أجد ذلك إلا فيما تقرره أرسطو طاليس من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات التي هي ذات الفلسفة وطبيعتها " . ويردف ابن الهيثم كلامه بعرض تحليلي لفلسفة أرسطو بحسب الترتيب المعروف لكتبه في ذلك العصر ، ويحكى اشتغاله هو بدراسة الفلسفة وتأليفه ما ألفه من كتب في غوامض علومها على قدر ما أحاط فكره بتصوره ووقف تمييزه على تدبره كما يقول وذلك حتى سنة 417هـ. 2. مواصلة العمل رغم الشعور بحتمية انتهاء الحياة لم يفت عن تفكير عالمنا في أثناء طموحه العلمي أن طبيعة الإنسان بعد الإزدهار والقوة مآلها إلى الضعف والإنحلال لكن ذلك لا يفت في عضد المفكر المتوثب المؤمن ولا يوقف عن وظيفته التي فطره الله عليها يقول ابن الهيثم : " وأنا ما مدت لي الحياة باذل جهدي ومستفرغ قوتي في مثل ذلك متوخيا به أموراً ثلاثة : أحدها إفادة من يطلب الحق ويؤثره في حياتي وبعد وفاتي والآخر أني جعلت ذلك ارتياضا لي بهذه الأمور في إثبات ما تصوره وأتقنه فكري من تلك العلوم والثالث أني صيرته ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وأوان الهرم .... " . وهنا يتمثل ابن الهيثم من جديد بجالينوس معجباً به في إفادة طالب المعرفة وفي رياضة نفسه بها وادخارها لزمان الكبر . واستمر في التأليف ما أطال الله في مدة حياته وكان يتمثل ببيتين من الشعر للوزير المتفلسف أبي الحسن علي بن عيسى وأوصى أن يكتبا على قبره وهما : رب ميت قد صار بالعلم حياً ومبقي قد مات جهـلا وغيـا فاقتنوا العلم كي تنالوا خلودا لا تعدوا الحياة في الجهل شيا
إن العالم والمفكر الحق يشعر أن العلم لا نهاية له ، ولذلك فإن ابن الهيثم بعد أن يذكر لنا أنه ألف كتبا ختمها برسالة بين فيها " أن جميع الأمور الدنيوية والدينية هي نتائج العلوم الفلسفية " وهي القول السبعون فيما صنفه وبعد أن يشير إلى تصانيف له ضاعت أصولها أو تفرغت في أيدي الناس كما حدث لجالينوس من قبل ، يقول : " وإن أطال الله لي في مدة الحياة وفسح في العمر صنفت وشرحت ولخصت من هذه العلوم أشياء كثيرة تتردد في نفسي ويبعثني ويحثني على إخراجها إلى [ الوجود ] فكري ، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وبيده مقاليد كل شئ وهو المبدئ والمعيد ... " . وكان هذا المفكر الدؤوب يشعر بما يربطه بنظرائه من العلماء ولذلك يقول أنه قصد فيما صنفه " مذاكرة الحكماء الأفاضل والعقلاء الأماثل " القادرين على إدراك الحقائق دون غيرهم ، وكان كل همه معرفة " الحق " " وطلب القربة إلى الله باقتناء العلوم والمعارف النفيسة " كما كان يجب أن يعرف الناس رتبة في العلم ومحبته للحق والخير والعدل ليقتدوا به وبذلك " يفوز ابن العالم الأرضي بنعيم الآخرة السماوي ويعتاض عن صعوبة ما يلقاه مدة البقاء المنقطع في دار الدنيا بدوام الحياة منعما في الدار الأخرى وإلى الله تعالى أرغب في توفيقي لما قرب إليه وأزلف لديه " .
3. ابن الهيثم والفكر الاسلامي في عصره تقع حياة ابن الهيثم بين حوالي عام 354 و 432 هـ وهذه فترة ازدهار علم الكلام المعتزلي وبلوغـه ذروة عاليـة فـي مؤلفات القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ( ت 415 أو 416 هـ ) والمرحلة الأولى من ازدهار " علم الكلام الأشعري " على يد القاضي أبي بكر الباقلاني ( ت 403 هـ ) .
وكان ابن الهيثم معاصراً لابن مسكويه ( ت 421 هـ ) وابن سينا ( ت 428 هـ ) وأبي الريحان محمد بن أحمد البيروني ( ت 440 ت ) لكنه كان في أول أمره بالبصرة وأقام في الشام حينا ثم استقر في مصر على عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي ( ت 411 هـ ) وفيها توفي إلى رحمة الله ولا نجد بين أسماء مؤلفاته الكثيرة ما يدل على اهتمامه بمذاهب فلاسفة الاسلام المعاصرين له ومن الواضح أنه وجه كل اهتمامه - رغم كل شروحه وتلخيصاته لمؤلفات اليونان - إلى علوم الرياضيات والفلك والهيئة وفيها تجلى نبوغه .
لكن ابن الهيثم لم يكن منقطع الصلة بحياة الفكر الإسلامي في عصره من ناحية معينة هي ناحية العقيدة ومنهج إثباتها فرغم قوة الفكر الديني عند المتكلمين والفلاسفة إلا أنه كانت هناك أصداء من زندقة ابن الراوندي ( القرن الثالث الهجري ) ومن آراء تنسب للرازي الطبيب محمد بن زكريا ( ت بين 311 و 321 هـ ) لا تزال تتردد في عصر ابن الهيثم ، وكان هناك كثير من الآراء في تفاصيل العقيدة وكانت طريقة المتكلمين من معتزلة ومن أشاعرة هي الرائجة في إثبات وجود الله على أساس إثبات حدوث العالم بحسب المقدمات المأخوذة من العلم الطبيعي ثم إثبات وجود الله وكانت هناك أيضاً طرق إثبات وجود الله عند فلاسفة الإسلام منذ الكندري مروراً بالفارابي وانتهاءً بابن سينا . عني ابن الهيثم باتخاذ موقف إزاء هذه الاتجاهات فألف في الرد على ابن الراوندي وعلى الرازي وآرائه في العلم الإلهي وفي النبوات كما ردّ على المعتزلة في بعض آرائهم وأيضا لم تعجبه - فيما يبدو - طريقة المتكلمين فألف " مقالة في أن الدليل الذي يستدل به المتكلمون على حدوث العالم دليل فاسد والاستدلال على حدوث العالم بالبرهان الاضطراري والقياس الحقيقي " وكان عالمنا الفيلسوف يرى أن الله تعالى دائم الخلق والإبداع خلافاً لمن يتصورون أن وجوده تعالى سابق على وجود العالم ثم أوجد العالم فألف " مقالة في إبانة غلط من قضى أن الله لم يزل غير فاعل ثم فعل " وكان ابن الهيثم كما يقول ظهير الدين البيهقي في كتابه " تتمة صوان الحكمة " " ورعاً متعبدا معظماً لأوامر الشريعة " . وقد اهتم برضع طريقة لاستخراج سمت القبلة على مستوى المعمور من الأرض وألف " مقالة فيما تدعو إليه حاجة الأمور الشرعية من الأمور الهندسية ولا يستغنى عنه بشئ سواه " وهو في الرسالة التي ننشرها له يقول إن المنهج الذي يرسمه لكي يبتدئ طالب الحكمة بتعلمه سيهديه إلى " علم الأمور الطبيعية التي هي الحكمة ومبادئها وعللها وأسبابها وإلى علم الأمور الإلهية ويوقف بذلك على حكمة الله تعالى ذكره في هيئة السماء والأرض وما بينهما فلزم بذلك إثبات البارئ الإله تعالى ، حكيماً قادراً خبيراً "
4. ابن الهيثم العالم الزاهد المتعفف عن عطايا الناس يذكر في ترجمة حياة فيلسوفنا أنه كانت لديه قاعدة حسنة فكان في كل سنة ينسخ بعض كتب الفلسفة لبطليموس واقليدس فكان يأتيه من يدفع له ثمنها وكان ينفق في سنته ، وهذا كان أيام مقامه في مصر إلى أن توفي . لكن ابن الهيثم قبل ذلك أقام في الشام حيناً عند أحد أمرائها فأعجب به وأراد أن يغمره بالأموال فقال الأمير " يكفيني قوت يوم وتكفيني جارية وخادم فما زاد على قوت يوم إن أمسكته كنت خازنك وإن أنفقته كنت قهرمانك ووكيلك وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي !؟ " . كما يحكى أن أحد الأمراء قصده ليتعلم عليه ، فخشي أن يضيع وقته معه سدى فأراد أن يختبر حبه للعلم فطلب منه أن يدفع مائة دينار في كل شهر فبذل الأمير المال وبعد أن تعلم على ابن الهيثم ثلاث سنين وأراد الإنصراف صحبه الأستاذ العظيم مودعاً ومعه كل ما أخذه من المال وكان قد حفظه له فأعطاه له وقال له : أنت أحوج لهذا المال مني عند عودتك إلى بلادك " وإني قد جربتك بهذه الأجرة فلما علمت أنه لا خطر ولا موقع للمال عندك في طلب العلم بذلت مجهودي في تعليمك وإرشادك وأعلم أنه لا أجرة ولا رشوة ولا هدية في إقامة الخير " - كان هذا خلق ابن الهيثم كما كانت حياته(15) وبعد ، فإني أردت بكل ما سبق من كلام عن ابن الهيثم وخصوصاً عن منهجه أن أقدم لرسالة له في المنهج أيضاً وقد اطلعت عليها منذ عام 1969 في مكتبة كويرولو باستانبول تحت رقم 1604 في مخطوط يرجع تاريخه إلى سنة 754 هـ ، كما نجد ذلك على ورقة 113 و . والرسالة ضمن مجموعة مصنفات أسماؤها مكتوبة على الصفحة الأولى من المخطوط ومنها " إحصاء العلوم " " وعيون المسائل " للفارابي وأشياء لابن سينا وتلميذه بهنيار بن المزربان وغيرهما . وتشغل الرسالة الورقات 41 و - 59 و . وعلى وجه الورقة الأولى هذا العنوان : " كتاب ثمرة الحكمة لابن الهيثم رحمة الله عليه ، أمين " غير أن هذا الإسم لا يوجد بين أسماء مصنفات ابن الهيثم بحسب قوائم كتبه حتى عام 417 ، 419 ، 429 هـ كما نجدها عند ابن أبي اصبعة مثلا . لكني أعتقد أن هذا الكتاب أو الرسالة لابن الهيثم واعتقادي مبني على أمور كثيرة :
1 - هو يقول بعد ذكره بخط يده أسماء مصنفاته حتى سنة 417 هـ أن ما أحصاه منها هو عدا " رسائل ومصنفات عدة لي حصلت في أيدي جماعة من الناس بالبصرة والأهواز ، ضاعت دساتيرها وقطع الشغل بأمور الدنيا وعوارض الأسفار عن نسخها وكثيراً ما يعرض ذلك للعلماء ... " وهو يذكر هنا جالينوس . 2- أسلوب هذه الرسالة في نظري هو أسلوب ابن الهيثم وهو علمي دقيق . 3- لفظ " ثمرة " يرد في هذه الرسالة في ورقة 42 ظ " ثمرة الحكمة " في قوله : " رأيت أن أفصح في هذه المقالة عن ثمرة الحكمة ويتكرر لفظ " ثمرة " بعد ذلك بقليل وهو يرد أيضا في سياق كلامه عن نفسه مشيراً إلى علوم الحكمة : " فإن ثمرة هذه العلوم هو علم الحق والعمل بالعدل " . وكذلك لفظ " ارتياض " بالفلسفة يرد في كلامه عن نفسه كما يرد في الرسالة ( ورقة 42 و ) وهذا أيضا إلى جانب عبارات كثيرة مثل : تصور الأمور بالفكر ، ونحو ذلك . 4- يقول ابن الهيثم في الرسالة ( ورقة 58 ظ ) " إن الحكيم إنما تحدوه الحكمة أن يفعل الخير لذاته لا لطلب المجازاة عنه " وهذا هو خلق ابن الهيثم كما ذكرنا فيما سبق . 5- فـي أول الرسالة يعرف ابن الهيثم الحكمـة بأنـها " علم كل حق وعمل كل نافع " وهذا واضح من كلامه عن نفسه وهو يرى أن الحكمة هي للإنسان خاصة وبها كمال إنسانيته . وأحب أن ألاحظ هنا أن ابن الهيثم ألف كتابا في اللذة وكانت للرازي الطبيب نظرية اشتهر بها وهي أن ما نسميه لذة ليس شيئا إيجابيا وإنما هو راحة من ألم سابق عليها وقد رد عليه الكثيرون في عصره وبعده .
وابن الهيثم كان يعارض الرازي في كثير من فلسفته وعلى حين كان الرازي يتكلم في الأمور الإنسانية كطبيب يعيش بين المرضى المتألمين ، كان ابن الهيثم يتكلم كحكيم وفيلسوف عقلي وهو في هذه الرسالة التي نقدمها يعالج بعض الأمور الإنسانية وفي سياق ذلك يتكلم عن السعادة في حق الإنسان فيرى أنها هي الراحة من غير ألم وبما أن الإنسان يتميز بالنفس الناطقة أي العقل فإن سعادته المنشودة هي في طلب الحكمة والحصول عليها وهذا ما يميز الإنسان عن سائر الحيوان الأرضي . 6- يذكر من بين مصنفات ابن الهيثم " مقالة في حساب الخطأين " وفي الرسالة التي نقدمها ذكر هذا النوع من الحساب . 7- وأخيراً فإن الروح السارية في الرسالة هي روح ابن الهيثم وكذلك الأسلوب والمقصود . فلعل هذه الرسالة أو المقالة بالأحرى من كتبه التي ضاعت أصولها ، وكان عنوانها " مقالة في .... " وكان قد ألفها في وقت مبكر من حياته الفكرية .
أما لفظ " كتاب " الذي نجده في غلاف الرسالة فقد يكون من الناسخ أو من جامع تلك المصنفات في المخطوط . ولما كان موضوع الرسالة يدور حول المنهج الهندسي وفائدته في تمرين الذهن لطالب الحكمة فإنها جديرة بالنشر بصرف النظر عن اليقين فيما يتعلق بمؤلفها . هذا وقد اخترت لها عنوان مستندا إلى ما جاء في داخلها لكن مراجعة كتاب " حل شكوك اقليدس " لابن الهيثم أكدت لي صحة نسبة الرسالة إليه .
مكان الرسالة بين المقدمات لدراسة الفلسفة عرف الفلاسفة منذ قديم - على عهد أفلاطون - أهمية دراسة الهندسة وعلوم الرياضيات بوجه عام في تقويم الذهن . ولما جاء الكندري أول فلاسفة الإسلام ألف رسالة في " أنه لا تنال الفلسفة إلا بعلم الرياضيات " وهو قد أكد هذا المعنى في رسالته " كمية كتب أرسطو وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة " . فلما جاء الفارابي ذكر في رسالته له " فيما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة " مختلف الآراء واستحسانها جميعا ، لكنه يوصي بالمران في البرهان الهندسي ثم في البرهان المنطقي ، ومن حسن الحظ أن تحفظ لنا الأيام هذه الرسالة التي فيها تفصيل المران في البرهان الهندسي مطبقا بالرسم . ونحن نقدم هذه الرسالة بعد أن ضبطنا نصها بقدر الإمكان ووضعنا عناوين بين مضلعين على سبيل الإجتهاد في تقسيمها وبيان ما تضمنته من عناصر . وسيرى القارئ أنها تسير بخطة مرسومة في عقل مؤلفها وآخرها يلتقي بأولها على نحو جميل . وإذا كان ابن الهيثم بحسب اعتقادي هو مؤلف هذه الرسالة فإن القارئ لها يحس تماما بغاية سعي عالمنا الجليل في هذه الحياة : من طلب الحق ومحبة الخير والعدل ومجانية الشرور والسعادة بالحكمة التي يصل إليها الإنسان بفضل الجهد والعزوف عن الجري وراء متاع الدنيا الزائف المنقضي . ومن أطرف ما في الأمر أنها ثمرة تفكير مفكر ترفع عن تقليد الغير وتبين بفضل الشك والنقد طريقاً جميلاً في الحياة مع السموّ إلى أعلى ما يطمح إليه العقل من تصور هذا الكون ، ومع الإيمان الراسخ المستنير وأخذ مكان في حياة المعرفة من حيث هي ، وفي حياة الفكر في الحضارة التي ينتمي إليها . فما أحراها بأن يكون نشرها في مجموعة أبحاث يكتبها تلاميذ الأستاذ الكبير زكي نجيب محمود وأصدقاؤه ويسعد هو بقراءتها فلعله يرى فيها نفسه كما يرى في حياة ابن الهيثم ملامح جميلة في حياة العلماء وأساتذة الأجيال وهو عقول كبيرة سعيدة يحيى بعضها بعضا من وراء القرون - والحمد لله .
د. محمد عبدالهادي أو ريدة مقالة عن ثمرة الحكمة للحسن بن الهيثم تحقيق وتقديم د.محمد عبدالهادي أبو ريدة بسم الله الرحمن الرحيم وماتوفيقي إلا بالله
قال أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم رحمه الله : الحكمة علم كل حق وعمل كل نافع - وعمل النافع عسير جداً إلا لمن لطف حسه واعتلت قوة النفس الناطقة بحركتها فيه ، وذلك أن بدن الإنسان آلة لثلاث(1) قوى نفسانية :
[ قوى النفس ] : إحداها : القوة المنسوبة إلى اللذات وهي القوة التي يشترك فيها جنس النامي ، وهو نوعان : النبات والحيوان ، وبها تكون(2) الشهوة في الحيوان فهي تسمى القوة الشهوانية . والأخرى هي(3) القوة المنسوبة إلى الظفر والغلبة ، وتلك القوة هي التي ينفرد بها جنس الحيوان وهو فصلان : غير ناطق ، وناطق ، وتسمى القوة الغضبية . والثالثة [ القوة ](4) المنسوبة إلى السعادة وهي القوة التي يحس بها الناطق من الحيوان وتسمى القوة الناطقة . وكل واحدة من هذه القوى لها في الحركة وسط وطرفان لأن الشوق إنما هو حركة [ إلى ] المتشوق إلية ، كحركة الحديد إلى الهرقلي : والهرقلي هو الحجر الذي تسميه [ 42 و ] والعامة المغناطيس . وكل واحدة مـن القوى الثلاث المقدم ذكرها هي تستعمل بدن الإنسان بإحدى الحركات الثلاث : إما بسيط وهو الإعتدال ، وإما بأحد(5) الطرفين وهو الإفراط والضعيف(6). فالشهوانية اعتدال حركتها في الإنسان يسمى عفة وإفراط حركتها فيه يسمى شرها وضعفها يسمى كلال الشهوة . والغضبية إعتدال حركتها فيه يسمى شجاعة وإفراطها يسمى هوجاً وضعفها يسمى جبناً . والناطقة اعتدال حركتها فيه يسمى عقلاً ، وإفراطها يسمى جهلاً ، وضعفها يسمى حمقاً . وكيف [ يسهل علم الحق وعمل النافع ](7) لمن لم يلطف حسه ولا اعتدلت حركة القوة الناطقة فيه !!؟؟ [ أصول الحكمة وقواعدها ] : وللحكمة(8) أصول موضوعة وقواعد مقررة يحتاج الطالب للحكمة إلى النظر فيها والارتياض بها وأخذ نفسه بأن يتصورها واقامتها في فكره والصبر على ما اعتاص منها في فهمه حتى يظهر بمواصلة النظر في ذلك والتفهم له ، وما خفي عليه بأمر(9) ومتى استعمل هذا ولم ينفر عنه عند خفائه كان واصلا إليه لا محالة . [ 42 ظ ] ولما رأيت كثيراً من المبتدئين إذا نظروا في أوائل هذه الأصول ثقلت عليهم واستبعدوا الوصول إلى أحكامها وظنوا أنها مع ذلك لا ثمرة لها ولا فائدة تقترن بملابستها (10) رأيت أن أفصح في هذه المقالة عن ثمرة الحكمة جملة وأخص منها جزء الهندسة بذلك وأكشف عن بعض الأصول الموضوعة لها على سبيل جهة المبدأ والمدخل لأسهل به على المبتدئين في طلب الحكمة سبيل السلوك إليها ، وأقرع أصولها وأحثهم على الصبر في تأمل ما لعلهم يقفون فيه من هذه الأصول وأرغبهم في الاستفادة لذلك بما أبين عنه من كرائم الثمرة ولطائف الفائدة التي يظفر بها الصابر على التأمل والاستفهام لأصول الحكمة .
[ النفس الناطقة وقواها ] : وذلك أن الإنسان هو نوع من أنواع الحيوان الأرضي المخصوص بالنفس الناطقة والنفس الناطقة هي ثلاث قوى : تخيل ، وذكر ، وفكر . فأما التخيل فهو بقية الحس وذلك أنه (11) تصور الإنسان ما أحسه أو ما أحس مثله من غير حضور ذلك المحسوس ، كالذي يشاهد [ 43 و ] مصراً من الأمصار ، فإذا فارقه كان متصوراً له ولمثله من الأمصار . وهذه القوة من قوى النفس الناطقة يقال لها القوة المصورة وبها تستعمل النفس الناطقة بدن الإنسان في حال نومه .
[ نظرية الأحلام ] : فتصور له الأشياء بحسب ما عليه مزاج ذلك البدن من الاعتدال المخصوص به والخروج عن ذلك الاعتدال إلى أحد طرفيه ، أريد أن القوة المصورة إذا صادفت مزاج البدن على حال الاعتدال المخصوص به أمكنها أن تصور له الأشياء الماضية والآتية على ما هي عليه فيثبتها. ولأن الاعتدال في الأمزجة يكون على رتب متفاضلة فكلما كان الاعتدال أفضل كان فعل القوة المصورة أبين وأصح وأوضح ، حتى ينتهي فعلها إلى الحال التي تسميها (12) العوام : الوحي.
فإذا صادفت مزاج البدن زائلاً إلى أحد الطرفين كان الممكن لها فيه ثلاثة أفعال : أحدها فيما(13)هو أقربها من الإعتدال وهو أن يرى من له تصور الأشياء الماضية والآتية كالذي يرى في [ 43 ظ ] منامة أنه يطير فإن ذلك رمز له بالسفر . والآخر غيما هو أبعد من ذلك عن الاعتدال وهو أن تصور له الأشياء الماضية والآتية بأضدادها كالذي يرى في منامه أنه في أمر يحزنه فيأتيه ما يفرحه . والثالث فيما هو بعيد في الغاية عن الإعتدال وهو على رتب مختلفة تكون أفعال القوة المصورة في ذلك مختلفة كتصورها الأشياء المفرعة والأشياء الملهية والأشياء الممتنعة(14) ، كالذي يرى نفسه قد مات أو قتل أو صار بهيمة وما شاكل ذلك . والذكر هو إحضار ما تقدم وجوده في النفس . والفكر هو سلوك النفس الناطقة في إدراك حقائق الموجودات وهو الذي يختص باسم العقل . والإدراك هو تصور نفس المدرك لصورة المدرك .
[ العقل وقواه ] : وللعقل ست قوى ذاتية وثلاث قوى عرضية . فقوى العقل الذاتية هي (15) التصور العقلي ، والحفظ ، والذهن ، والذكاء ، والرأي ، واليقين . [ 44 و ] فالتصور العقلي هو حضور صورة الموجودات في النفس ملخصة والحكم على كل واحد منها بما هو كذلك . والحفظ هو ثبات صورة المعقولات والمحسوسات في النفس . والذهن هو جودة التمييز بين الأشياء . والذكر هو سرعة المعرفة والعلم بما يلابسه الفكر . وذلك أن المعرفة هي تصور ما حسي . والعلم هو تصور ما عقلي ، والمعرفة هي إدراك صور الأشياء بما تتميز به عن غيرها ، والعلم هو إدراك حقائق الأشياء . والرأي هو نهاية الفكر . واليقين هو مطابقة العقل معقوله . وقوى العقل العرضية هي : الظن والتوهم والشك . فأما الظن فهو تحاذي الرأيين . والتوهم هو موافقة الظن من غير إثبات الحكم . والشك هو تردد النفس بين الإثبات والنفي . وهذه الثلاث (16) إنما تكون للعقل بتوسط ضعفه عن الوقوف على حقيقة مطلوبة . والعقل هو الذي من شأن الجزء منه أن يصير كلا ، أريد أن من شأن عقل شخص واحد [ 44 ظ ] من أشخاص الناس ، الذي هو جزء العقل الكلي ، أن يدرك جميع المعقولات إذا سلم من الموانع العرضية .
[ الإنسان والخير والسعادة ] : والإنسان بقوة العقل معرض مهيأ لطلب السعادة ، وهي إدراك الخير على الحقيقة . والخير على الحقيقة هو ما يؤثر لذاته ، لأن العقل على المجاز هو ما يؤثر لأجل ما يؤثر لذاته . والشئ المأثور(17) لذاته هو الذي لا يكره في حال من الأحوال ، فإذن السعادة هي إدراك المأثور الذي لا يكره في حال من الأحوال . والمأثور الذي لا يكره من الأحوال هو الراحة من غير ألم وذلك أن الإنسان له راحتان : راحة من ألم وراحة من غير ألم .
[ نظرية اللذة والألم ] : فالراحة من الألم هي التي يشترك فيها الحيوان الأرضي الناطق وغير الناطق ، مثل الشبع ، فإنه راحة من ألم الجوع ، والري ، فإنه راحة من ألم العطش ، وكذلك سائر ما يفيده الإنسان بالقوتين الشهوانية والغضبية إنما هو لذيذ بالاضافة إلى المؤلم ، كالفرح إنما هو لذيد بالاضافة إلى الحزن ، والأمن إنما [ 45 و ] هو لذيذ بالاضافة إلى الخوف ، والحزن والخوف مؤلمان.
وذلك أن الراحة إنما تؤثر مع وجود ضدها الذي هو الألم ، فإذا عدم الألم فليست مما يؤثر ، ولكن هي مكروهة ، فإن الإنسان إنما يؤثر الطعام مع وجود الجوع ، فأما مع عدمه فهو مكروه لا محالة ، لكن يكره أن يزداد طعاما مع وجود الشبع ، كذلك سائر ما ذكرناه .
[ الراحة الإنسانية ] : والراحة من غير ألم هي (18) ما يختص به الحيوان الناطق فقط ، وهو العلم بكل حق بعد الجهل به والعمل لكل نافع بعد الالغاء له ، أعنى بعد اعتقاده أنه لغو ، لأن العلم والعمل إنما هما علم وعمل بالإضافة إلى الجهل والإلغاء ، والجهل والإلغاء ليس (19) بمؤلمين . والعلم بكل حق والعمل لكل نافع هما جزءا الحكمة ، فإذًا إدراك الحكمة هو الراحة من غير ألم ، وذلك أن هذه الراحة هي التي تؤثر مع وجود ضدها وعدمه جميعًا ، فهي لا تكره في حال من الأحوال . فإن الإنسان الجاهل يؤثر أن يعلم ، والعالم يؤثر أن يزداد [ 45 ظ ] علمًا فلذلك لزم أن يكون الإنسان فقط مهيأ لطلب المأثور الذي (20) لا يكره في حال من الأحوال ، وهو العلم بكل حق والعمل لكل نافع . فواجب أن يكون إدراك هذا هو السعادة ، لأن الإنسان يتميز عن سائر الحيوان الأرضي بالعقل ، فالعقل (21) لا بد أن يتميز عن سائر غيره من الحيوان بما لا يشاركه سائر الحيوان الأرضي فيه ، وما لا يشارك الإنسان غيره من الحيوان الأرضي [ فيه ] هو إدراك الحكمة .
[ الإنسان الحقيقي ] : وقد لزم من هذا الشرح أن يكون الإنسان الجاهل بعلم كل حق الملغى لعمل كل نافع إنما هو إنسان بالقوة ، أريد أنه يمكن أن يكون إنسانا . فإذن الإنسان الذي ليس بحكيم هو إنسان ناقص ، لأنه غير مميز من الحيوان الذي ليس بناطق بما أفرده به العقل . والإنسان الحكيم هو الإنسان بالفعل ، أريد (22) به الإنسان التام ، لأنه تميز (23) عن الحيوان الذي ليس هو بناطق بما (24) أفرده به العقل .
[ أقسام الفلسفة وفوائدها ] : والحكمة كما ذكرنا جزءان [46 و ] مركبان هما : علم كل حق وعمل كل نافع .فجزء العلم منها ينقسم ثلاثة أقسام : رياضي وطبيعي وإلهي . فالرياضي كعلم خواص الأشكال والأعداد والطبيعي كعلم خواص الموجودات وطبائعها وعللها ومبادئها ، وإلهي كعلم ما هو خارج السماء ، الذي هو الفاعل الأول ومبدأ المبادئ وأول الأوائل ، وهو الله تعالى وما يليق به من الصفات في ذاته وأفعاله .
وجزء العمل منهما ينقسم قسمين : أحدهما حفظ الصحة والآخر حيلة البرء . وهذان يستعملان إما في تدبير نفس واحدة ، كصناعة الطب ، وهذا يسمى إصلاح الأخلاق ، وإمّا في تدبير عدة أنفس ، كتدابير الرجل منزلة ، و[ إمّا في تدبير ](25) أمة من الناس كتدبير المدن بوضع السنن وإقامة الأحكام والقصاص والمجازاة ، وهذا يسمى السياسة النبوية .
[ الإنسان التام : بالسعادة مع الحكمة ] : فالإنسان يتم معنى الإنسانية فيه باستكماله إنسانًا ، وهو أن يدرك [ 46 ظ ] ما إليه تتشوق النفس الناطقة ، وهو السعادة التي ذكرنا أنها الراحة من غير ألم ، وهذا إنما هو الحكمة ، يكون ثمرة ذلك له أن يعلم حقائق الموجودات ومبادئها (26) وعللها وأسبابها ويتشبه في أفعاله بالله تعالى ذكره ، وهو استعمال فعل العدل الذي هو الخير المحض ، ولذلك حدّت الحكمة فقيل : الحكمة هي التشبّه بالله تعالى ذكره في أفعاله بمبلغ طاقة الإنسان .
[ فوائد الحكمة وفضائلها ] : والحكيم يستفيد بالحكمة معنيين : أحدهما في ذاته ، وهو الفضل والآخر فيما يعانيه ، وهو العدل وفضائل الحكمة ثلاث : نظرية ، وسياسية ، وخلقية . فالنظرية هي استعمال البرهان في إدراك حقائق الموجودات . والخلقية هي تهذيب الأخلاق واستعمال التلطف والتأني في الحكم (27) في جميع الأمور . والسياسة هي تهذيب أمور العوام وضبطهم عن فعل القبيح وكفهم عن التغالب وقمعهم عن التجاهل بأبلغ صنع يؤدي إلى إصلاحهم وردع قويهم عن ضعيفهم والانتصاف لمظلومهم من ظالمهم وما شاكل ذلك .
[ المنهج للوصول إلى الحكمة ] : [ 47 و ] والسلوك إلى إدراك الحكمة ، وهي علم الحقائق وعمل النافع ، طريق شرعها الحكماء وأوضحوها وشيدوا أعلامها ، وأصول ومبادئ رتبوها وأحكموا ترتيبيها ترتيبًا يتلو بعضها بعضًا ، لا يمكن الوقوف على الثاني منها حتى يوقف على الأول ، وجعلوا مبدءها والمدخل إليها صناعتين : إحداهما صناعة الهندسة والأخرى صناعة المنطق والهندسة هي صناعة يعلم بها خواص المقادير علمًا برهانيًا . والمنطق هو صناعة يميز (28) بها بين الصدق والكذب في الأقاويل والحق ، والباطل في الاعتقادات ، والخير في الأفعال (أ) . ورتبوا صناعة الهندسة أولا وصناعة المنطق ثانيًا ، لأن صناعة الهندسة بها يرتاض المبتدئ في معرفة البرهان حتى تثبت في نفسه صورته ولا يقبل من البراهين التي تعرض عليه إلا ما طابق ذلك البرهان وساواه ، ولهذا سميت الهندسة علم الرياضة . فالمبتدئ في طلب الحكمة يحتاج أن يرتاض أولاً بالأصول الهندسية ، فيدركها بالبرهان الذي به يدرك كل حق ، ثم يتلوها [ 47 ظ ] بالأصول المنطقية .
[ أصول الهندسة والعلوم المستفادة منها ] : والأصول الهندسية أربعة أجزاء : أحدها علم خواص الأشكال والآخر علم خواص الأعداد والثالث علم التأليف ، وهو الذي يسميه اليونانيون (29) الموسيقى والرابع علم هيئة الأفلاك وحركاتها . فيستفاد بهذه الأصول خمسة عشر علمًا صناعيًا برهانيًا : أحدهما : علم المساحة فيما يحتاج إلى مساحته من الخطوط والسطوح والأجسام ، ما تصل إليه وما لا تصل إليه اليد . والآخر : علم حساب المعاملات ، وهو ما يستعمله الناس في معاملاتهم وأخذهم وعطائهم وحساب (30) الأحرف التسعة الهندية . والثالث : علم حساب الجبر والمقابلة والخطأين (31) والرابع : علم حساب الفرائض والوصايا . والخامس : علم المناظر فيما يحتاج إلى معرفته بأوضاع المنظور إليه وأحوال بعده وقربه واعتداله في ذلك ، ومن اختلاف أقداره وأشكاله وأبعاده وما يعرض من انعكاس الشعاعات من الأجسام الصقيلة في أشكالها وأقدارها واستخراج سطوح المرايا المحرقة على أي بعد شاء المستخرج لذلك [ 48 و ] وما شاكله . والسادس : استخراج مراكز الأثقال ، وهو الموضع من الشئ الثقيل الذي إذا علق به وازى سطحه سطح الأفق ، فاعتدل في ميله فلم يكن له ثقل ، حتى أن المهندس مثلا يتمكن أن يوازي ما وزنه ألف رطل بما وزنه رطل واحد ، وأقل من ذلك ، ويحاذيه به . ومثال ذلك بين من اللعيان ، فإنه متى أخذ عمود فقسم بقسمين مختلفين ، يكون أحدهما أضعافا معلومة للآخر ، وجعل في طرفه جسمان ثقيلان مختلفا الثقلّ وعلق بموضع القسمة حتى يتحاذيا ، فإنه يكون ثقل الذي علق على طرف القسم الأقصر أعظم من ثقل الذي علق على طرف القسم الأطول بقدر ما من ثقل يحصل من قدر طول القسم الأطول إلى قدر طول القسم الأقصر . والسابع : استخراج المسائل الرياضية التي هي أصل كل مطلوب من الأمور الهندسية . والثامن : علم الحيل ، كما يحتال قي قدحي العدل والجور . فأما قدح العدل فهو الذي إذا جاوز الشراب حّدًا محدودًا أفاض جميع ما فيه . وقدح الجور هو الذي يمكن [ 48 ظ ] أن يشرب [ صاحبه ](32) أوقية من شراب ويسقى غيره رطلين . وفي رفع (33) الماء الجاري من الأغوار إلى العوالي وإساحته فيها ، وما شاكل ذلك . والتاسع : علم هيئة السماء والأرض وعدد أفلاك الكواكب وأقدار أجرامها وأبعادها من الأرض . والعاشر : علم صناعة الرصد للنيرين والكواكب واستخراج الآلات التي ترصد بها وتحصيل حركات الكواكب في الطول والعرض والصعود والهبوط والسرعة والإبطاء والرجوع والاستقامة وما يجري مع ذلك وحصرها وتقييدها بالكتب التي تسمى الزيجات(34). والحادي عشر : علم أظلال المقاييس التي تعرض في شعاعي النّيرين واستخراج آلاتها التي تسمى الرخامات وما يعلم بذلك من أوقات النهار والليل وساعاتهما . والثاني عشر : علم سطح الكرة واستخراج آلات الشعاع لذات الصفائح ، أعنى الإسطرلاب وغير ذلك من الآلات وما يعلم به [ من ] (35) الأمور النجومية . والثالث عشر : استخراج آلات الماء وقسمتها بأزمان النهار والليل وما يصنع في ذلك من [ 49 و ] الأمور العجيبة . والرابع عشر : علم تأليف الألحان ، وهو علم شريف ينقسم ثلاثة أقسام كانقسام أصل الحكمة التي يبدأ العلم من فروعها .
فقسم يسمى الناظم ، وهو يشاكل الفضائل النظرية في سكون النفس به . وقسم يسمى الملين ، وهو يشاكل الفضائل النظرية وتلطف أخلاق النفس به . وقسم يسمى المقوى ، وهو يشاكل الفضائل السياسية في تقوية النفس . والتصرف في هذا العلم يشاكل الحركات السمائية ، وذلك أن لتأليف اللحون في المدّات انتقالا وعودًا وترددًا في الخفة وفي الثقل وتعاقبًا وتمازجًا يشاكل انتقال الكواكب في الطول والعرض والرجوع والاستقامة والسرعة والإبطاء والصعود والهبوط والاتصال والتمازج بالشعاعات ، ولها في تغيير مزاج الحيوان وأخلاق نفسه ، كالمرض إلى الصحة ، والصحة إلى المرض ، والشجاعة إلى الجبن ، والجبن إلى الشجاعة ، والبخل إلى الجود ، والجود إلى البخل ، والفرح [ 49 ظ ] إلى الحزن ، والحزن إلى الفرح (36) ما يشاكل أفعال الكواكب وتغيير أمزجة الحيوان وأخلاق نفسه ، إلا أن تغيير الموسيقى يكون تغييرًا عرضيًا وتغيير الكواكب يكون تغييرًا ذاتياً . وأريدها هنا بالعرضى ما يكون زواله سريعاً وبالذاتي ما يكون زواله بطيئاً عسيراً . وفعل الموسيقى كفعل الأدوية في الأمراض ، وفعل الكواكب كفعل الطبيعة في الأمراض . والخامس عشر : هو ما يتعلق بعلم الأبنية وعقد القناطر والجسور وسدّ البثوق وحفر الأنهار وسوق المياه وقسمة ما يحتاج إلى قسمته من العقارات والأرضين (37) وما شاكل ذلك.
[ مدخل إلى صناعة الهندسة ] : فإذ قد ذكرت هذا فإني أتبع ذلك بما يكون مبدأ ومدخلاً إلى الصناعة الهندسية ، مسهلاً ميسرًا لطالب هذا العلم وورود شريعته وطرقه - فأقول أولاً : إن الأصول الموضوعة لجميع أجزاء الحكمة إنما تجري مجرى الحروف التسعة (38) وعشرين المفصلة ونظمها في كلمات [ 50 و ] سبع لأصول الخط ، حتى إذا أحكمت الأصول أمكن التصرف بها في الفروع . وإذا قدمت ذلك فإن الرياضي ، وهو المهندس إنما ينظر في الأشكال على أنها قائمة بذاتها ، وإن كان غير ممكن وجودها إلا في الأجسام فإن الشكل المستدير إنما يوجد في الجسم المستدير ، وكذلك غيره من الأشكال ، ولكن المهندس يأخذه كأنه منفصل من الجسم ، فيذكره بفكره ويحصره بتصوره العقلي ، فيتصور من الجسم المحسوس نهايته ، فيسميه سطح الجسم أو بسيطه لأن كل محسوس متناهٍ ، وما ليس بمتناهٍ فليس بمحسوس .
فالسطح هو ما أحاط بطول الجسم وعرضه منفصلاً من سمكه ، فإذا حصر التصور العقلي بسيط جسم فهو متناهٍ . لأن المحصور إنما يحصر بتناهيه ، وكل متناهٍ فله نهاية ، فنهاية البسيط المتناهي إنما هي طوله منفصلاً من عرضه .
والمهندس يسمّي نهاية السطح الخط ، ونهاية الشيء المتناهي متناهية ، فنهاية هذا السطح الذي هو الخط متناهية ، فهذا الخط إذن متناهٍ ونهايته [ 50 ظ ] هو الشيء المنفصل من الطول ، فنهاية الخط المتناهي هي الشيء الذي ليس بذي طول ولا عرض ولا سمك ، فهو شئ لا بعد له ، أعني لا قدّر له ، وما لا قدّر له لا جزء له ، وهذا الشيء الذي يسميه المهندس النقطة . فموضوع الهندسة الأول أربعة أشياء : شئ لا بعد له ، وهو النقطة وشئ له بعد واحد ، وهو الخط وشئ له بعدان ، وهو السطح ويقال له : البسيط وشئ له أبعاد ثلاثة ، وهو الجسم. فالنقطة هي شئ لا جزء له والخط هو طول لا عرض له والسطح هو طول وعرض فقط والجسم هو طول وعرض وعمق فالجسم أتم المقادير ، وذلك أن المقادير ثلاثة : الخط والسطح والجسم ، وإنما يقال لها مقادير لأن لها أقداراً ، والنقطة لا تسمى مقداراً لأنها لا قدر لها .
وموضوع الهندسة الثاني ثلاثة أشياء : نقطة ، وخط ، وشكل . أما النقطة فهي في نهايتي خط (39) والخط كخط أ ب أ______ ب والشكل : إما أن يكون سطحياً ، وإما أن [ 51 و ] يكون جسمياً .
فالسطحي : 1 - منه ما يتشكل من خطين مستقيمين ، وهو شكل الزاوية السطحية المستقيمة الخطين ، وتسمى الزاوية البسيطة المستقيمة الخطين . وإنما سميت بسيطة لأن منها تتركب الزاوية الجسمية لأن الزاوية الجسمية تتركب من ثلاث زوايا سطحية . والزاوية السطحية هي كالتي يحيط بها خطا أ ب جـ أ ب جـ .
2- ومنه ما يتشكل من أكثر من خطين مستقيمين ، فيسمى السطح ذا(40) الأضلاع ، كالذي تحيط به ثلاثة خطوط مستقيمة كثلث أ ب جـ وكمربع د هـ ر ج [ الذي ] تحيط به أربعة خطوط مستقيمة وكمخمس ? ط ك ل م ن الذي تحيط به خمسة خطوط مستقيمة ، وما فوق ذلك وهو المسدس والمسبع وما زادت أضلاعه على أضلاع هذين سمي كثير الأضلاع وخط أ س يسمى عمود المثلث وخط ه ر يسمى قطر المربع د ر
3- ومنه ما يتشكل من خط واحد [ 51 ظ ] غير مستقيم ، وهو الدائرةكالسطح الذي يحيط به خط أ ب المستدير ، وفي داخله نقطة كنقطة هـ تسمى المركز أ . إذا جعل كل واحد من ساقي البركار عليها وفتح حتى يقع طرف (41) الساق الآخر منه على نقطة من خط أ ب المستدير وأدير ذلك الساق على الخط كله حتى يعود إلى حيث ابتدأ منه . وإذا مر خط مستقيم على المركز الذي هو كنقطة هـ كنقطة هـ وانتهى في جهتيه إلى محيط الدائرة كخط أ هـ ب ، فإنه يسمى قطر الدائرة ، وهو يقسمها بنصفين .
4- ومنه ما يتشكل من خطين أحدهما مستقيم والآخر مستدير وهما شكلان : أحدهما يحيط به خط مستدير وخط مستقيم كشكل أ ب جـ وهذا يسمى قطعة الدائرة وخط أ جـ ب المستدير يسمى القوس وخط أب المستقيم يسمى وتر القوس . والآخر كشكل د هـ ر الذي هو كخطي دهـ هـ ر ، وهذه تسمى الزاوية التي ليست مستقيمة الخطين
5- ومنه ما يتشكل من خطوط مستديرة وهو ثلاثة أشكال [ 52 و ] أحدهما سطح يحيط به قوسان كشكل أ ب جـ الذي يحيط به قوسا أ ب جـ أ د جـ ، وهذا يسمى الشكل الهلالي والآخر شكل يحيط به قوسان كشكل هـ ر جـ الذي هو من قوس هـ ر ، ر جـ ، وهذا يسمى الزاوية المستديرة الخطين . والثالث سطح يحيط به أكثر من قوسين ، ثلاثة فصاعدا كسطح ط ك ر ر ك ك ط ، وهذا يسمى ذا الثلاثة أضلاع المستديرة ، ويكون منه ذو الأربعة أضلاع وذو الخمسة أضلاع فصاعداً كما تكون الخطوط المستقيمة .
والخطوط المستقيمة باقترانها بعضها إلى بعض في بسيط مستوٍ أربعة أشكال : أحدهما اقتران خطين يكون بعد ما بينهما بحال واحدة ، وإن أخرجا دائما ، وهذان يسميان خطين متوازيين
والآخر اقتران خطين يكون بعد ما بينهما في إحدى جهتيه أقل منه في الجهة الأخرى كخطي هـ ر ح ط اللذين [ 52 ظ ] بعد ما بينهما في جهة نقطتي هـ ج أقل من بعد ما بينهما في جهة نقطتي طـ ر . وهذان الخطان إذا أخرجا في جهة هـ ج دائما التقيا في تلك الجهة ، يسميان خطين (42) غير متوازيين . والثالث اقتران خطين يلتقي أحدهما بالآخر على نقطة واحدة ولا يخرج أحدهما عن الآخر كخطي ك ل ك م اللذين التقاؤهما على نقطة واحدة . وهذان يسميان متماسين .
والرابع اقتران خطين يلقي (43) أحدهما الآخر على نقطة واحدة ويخرج أحدهما عن الآخر كخطي ر س ف ع س م اللذين التقيا على نقطة س وخرج أحدهما عن الآخر ، وهذان يسميان خطين متقاطعين وتسمى زاويتا ع س ر م س ف زاويتين متقابلتين وكذلك نظائرهما .
والسطح يكون مستقيما ويكون غير مستقيم . فالسطح المستقيم هو الذي لا ارتفاع فيه ولا انخفاض كسطوح الزوايا (44) المسطحة التي ليست محدبة ولا مقعرة . والسطح الذي ليس بمستقيم هو كسطح الاسطوانة [ 53 و ] المستديرة والكرة والبيضة . فأما الجسمي (45) فمنه : الزوايا الجسمية ، وهي التي يحيط بها سطحان مستقيمان وثلاث زوايا بسيطة كزوايا البيت . ومنه الجسم الذي تحيط به سطوح مستقيمة من الثلاثة فصاعداً كالبيت المربع الذي تحيط به ستة سطوح مستقيمة ، أربعة سطوح من جوانبه وسطح سقفه وسطح أرضه . ومنه الجسم الذي يحيط به سطح واحد غير مستقيم ، كسطح الاسطوانة المستديرة والكرة والبيضة .
وموضوع الهندسة الثالث لها هو ثلاثة أشياء : هيئة وقدّر ونسبة . أما الهيئة فهي ذاتية (46) الأشكال ، أعنى نهاياتها وحدودها مثل المثلث [ الذي ] هو شكل ذو ثلاثة زوايا والدائرة [ التي ] هي شكل لا زاوية له . وأما القدّر فهو إما أن يكون في ذي البعد الواحد وذي البعدين ، أو ذي الثلاثة أبعاد أو في الحركة ، أو في الثقل والخفة الجسمية ، أو في الثقل والحدة الصوتية . وأما النسبة فهي حال التفاضل والتساوي بين المقترنين المتجانسين . [ 53 ظ ] والرياضي [ الذي ] هو المهندس إنما يستخرج مطلوباته من الأمور الرياضية وهي الأمور الهندسية استخراجاً اضطراريا(47) لا يمكن أن يكون فيه شبهه ولا شك . وهذا إنما يتم بالبرهان .
[ تحليل البرهان الرياضي ] : وذلك أن البرهان إنما يدل على المطلوب أنه يكون من أجل معنى عامي(48) يدل على حقيقته ببديهة العقل والحس و [ من أجل ](49) معنى آخر كلي يوجد لموضوع أوليّ من أصول الأمر الذي ذلك الأمر منه اضطراراً . والعام هو الذي تشترك به الأشياء . والكلي هو الذي يوصف به كثيرون بوصف واحد . مثال ذلك : خطّا : أ د هـ ج طلبنا أن نعلم هل هما متساويان ؟ ولم يكن لنا سبيل إلى اطباق أحدهما على الآخر فنعلم(50) بذلك ما طلبنا . ووضعنا خطا مستقيما كخط ط فقدرنا به أولا خط أ د فقدره في ثلاث مرات وكان كل من أ ب ب ح ح د يساوي خط ط ، ثم قدرنا به خط هـ ح فقدره أيضاً في ثلاث [ 54 و ] مرات وكان كل واحد من خطوط هـ و و ر ر ح يساوي خط ط ، فكان إذن في خط أ د من أمثال ط مثل ما في خط هـ ح من أمثال ط .
ومدرك ببديهة العقل إدراكا عامياً(51) أن الأشياء أعني أي أشياء فرضت إذا كانت (52) أضعافا متساوية لشيء واحد بعينه من جنسها فهي متساوية. فلزم بذلك أن خطي أ د هـ ح متساويان . فالتساوي لهما إنما وجب من أجل ما هو مدرك ببديهة العقل إدراكاً عامياً أن الأشياء التي هي أضعاف متساوية لشيء واحد بعينه من جنسها هي متساوية ، لما قدرنا. فالخط الموضوع مظهر انهما أضعاف متساوية لما قدرنا ثلاث مرات متساوية وجوباً كلياً اضطرارياً . فالبرهان إذن معنيان يتصلان بمعنى آخر يكون مشتركا بينهما أعني أنه يكون أو يلزم فيهما جميعاً [ أن ] يتولد منهما المطلوب اضطراراً مثل أنه لما كان مدركاً ببديعة العقل والحس أن الأشياء التي هي أضعاف متساوية لشيء واحد بعينه من جنسها هي متساوية فكان هذا المعنى تشترك فيه الأشياء ووجد أ د هـ ح ونظائرهما [ 54 ظ ] إذا قدرا بخط ما كخط ط كانا أضعافا متساوية لذلك الخط تولد من ذلك أن خطي أ د هـ ح متساويان . فالمعنى الأول لزم لزوماً عامياً في الخطوط وغير الخطوط والمعنى الثاني لزم لزوماً كلياً في الخطوط كلها فقط التي منها خطا أ د هـ ج والذي وصل بينهما هو المعنى الثالث ، وهو تقدير الشيئين المفروضين بشئٍ واحدٍ من جنسهما والتقدير مشترك : العام والكلي ، أعني أنه يلزم فيهما جميعاً . [ أنواع البرهان - مراتب البرهان ] : ولما كانت المطلوبات الهندسية يوقف على حقيقتها من وجهين : أحدهما أن المطلوب إذا كان من أجل معنى واحد عامي يوجد بموضوع أولي من أصول الأمر الذي ذلك المطلوب منه يصل بينهما بمعنى آخر مشترك لهما فهو حق . وهذا ينقسم قسمين : أحدهما أن المطلوب الذي وجب بالبرهان أنه معنى حق إذا سلم وقرر به أحد المعنيين اللذين أخذا في برهانه لزم في المعنى الآخر الذي هو بديهة العقل أو في حكم ذلك أنه حق (53)
مثال ذلك: أنه لما وجب بالبرهان أن خطي أ د ، هـ ج متساويان [ 55 و ] كنا متى سلمنا (54) أنه غير متساويين فقلنا أن خطي أ د ، هـ ج غير متساويين ، ومدرك ببديهة العقل أن الأشياء التي هي أضعاف متساوية لشيء واحد بعينه من جنسها هي متساوية ، يكون خطا أ د ، هـ ج ليسا بأضعاف متساوية لخط ط - وهذا محال فالخطان إذن متساويان .
وهذا الوجه هو معنى الوقوف على حقيقة المطلوب ببرهان يسمى برهان الواجب . والآخر أن المطلوب إذا وجب بالبرهان أنه حق عرض شك في أنه يلزم أو لا يلزم ذلك بالبرهان على المطلوب به فيسلم أنه لا يلزم ويقاس إلى أصول الأمر الذي المطلوب منه أن المطلوب يلزم بذلك البرهان اضطراراً .
مثال ذلك : مثلنا أ ب ج د هـ ر ? ? - وهو أن خط أ ب يساوي خط د هـ ، وخط أ ج يساوي خط د ر ، وزاوية ب أ ج تساوي زاوية هـ د ر ، فأقول أن قاعدة ب ج تساوي قاعدة هـ ر (55) برهان ( 55 ط ) ذلك .
أنا إذا توهمنا أن مثلث أ ب ج منفصل (56) فأطبقناه على مثلث د هـ ر انطبق جميع [ خط ] أ ب على جميع خط د هـ المساوي له ، ووقعت نقطة ب على نقطة هـ ونقطة أ على نقطة د ونقطة ج على نقطة ر وانطبقت زاوية ب أ ج على زاوية هـ د ر المساوية لها ، فلزم لذلك أن تنطبق قاعدة ب ج على قاعدة هـ ر ، فيظهر بالحس أنهما متساويان .
فإن شك شاك فقال أن قاعدة ب ج ربما لم تنطبق على قاعدة هـ ر ، فمتى سلم ذلك حقاً لزم منه أن يكون خطا ب ج هـ ر المستقيمان قد التقى (57) أطرافهما ولم ينطبق أحدهما على الآخر . ومن المحال الظاهر أن يكون خطان مستقيمان تلتقي أطرافهما ولا ينطبق أحدهما على الآخر ، لأن ذلك إنما يصح في الخطين : المستقيم والمستدير ، والخطين المستديرين ، كخطي أ ج ب و أ ب أ و كخطي أ ب ج و أ د ج فيما تقدم تمثيله .
فقاعدة ب ج إذن تنطبق على قاعدة هـ ر ، لا يمكن غير ذلك لأنهما متساويان .وهذا الوحه هو معنى الوقوف على حقيقة المطلوب ببرهان يسمى [ 56 ر ] برهان الفرض . والوجه الآخر هو ما وجب بالضرورة أنه متى أخذ شئ ما كائنا فلزم من كونه أمر يمتنع أن يكون فذلك الشئ ممتنع أن يكون . فكل شئ إذا كان ممتنعاً أن يكون فهو ليس بواجب أن يكون . مثال ذلك : خطا أ ب ، ب ج متى أخذ أن خط أ ب هو مثل خط ب ج لزم من ذلك أن يكون العظيم والصغير اللذان هما من جنس واحد أ_____ ب متساويين . ويمتنع أن يكون العظيم والصغير اللذان هما من جنس واحد متساويين . فليس بواجب أن يكون خطا أ ب ب ج متساويين ، فهما غير متساويين وهذا الوجه هو المعنى الذي يوقف به على حقيقة المطلوب ببرهان يسمى برهان الخلف ، فصار بذلك البرهان الهندسي (58) [ على ] هذه الصور الثلاث .
[ أقسام البرهان الهندسي ] : فأما ما يتألف منه البرهان الهندسي فهو ينقسم ثلاثة أقسام : طرفان ومتوسط بينهما وأحد الطرفين هو الأمور الموضوعة التي تختص [ بها ](59) صناعة الهندسة ، مثل : أن النقطة هي شئ لا جزء له ، والخط [ 56 ظ ] هو طول لا عرض له ، وأن البسيط هو طول وعرض فقط ، وجميع ما شرحناه من قبل من أحوال الأشكال وشرح في صدور مقالات اقليدس من ذلك وهذا يسمى الوضع الأول . والطرف الآخر(60) هو الأمور العامية التي تلزم ببديهة العقل والحس في صناعة الهندسة وغيرها من الصناعات مثل : أن العظيم ليس يساوي الصغير في القدر . وأن الشئ أعظم من جزئه(61) . وجميع ما يورد من هذا الجنس في صدر كتاب أو اقليدس(62) وهذا يسمى الرأي العامّ . والمتوسط بينهما هو معنيان : أحدهما يلزم العمل مثل صلة ما بين كل نقطتين بخط مستقيم وأخذ أي نقطة اتفقت مركزاً وإدارة دائرة على الحركة بأي بعد اتفق مثل أن يوضع طرف إحدى ساقي البركار على نقطة ما من سطح ما ويفتح الساق الآخر بأي قدر شاء الصانع ويدار به دائرة وجميع ما ذكر من ذلك في صدر كتاب اقليدس . وهذا المعنى المتوسط يسمى المسلم (63) . [ 57 ر ] وهذه الثلاثة أجناس من المعاني يقال لها : المصادرات(64) وهي أن تؤخذ معان بلا برهان فتستعمل في البرهان . فمنها ما يكون مدركا ببديهة العقل كالرأي العام الذي ذكرناه قبيل(65) . ومنها ما يكون في حكم ذلك وهو الوضع الأولي المسلم الذي ذكرناه قبيل أيضاً . والمعنى الآخر المتوسط هو ما ظهر وبان من الأشكال الهندسية بالمصادرات أولاً ، فلزم بأن منها غير ذلك الأول وغيرها الذي هو المصادرات . مثال الشكل الأول من أشكال اقليدس فإنه لزم مطلوبه بتوسط العمل بالوضع الأول(66) والرأي العام . وكذلك أكثر أشكال اقليدس فيما بعد الثاني على مثل هذا تلزم مطلوباتها وقد يكون فيما بعد الثاني من أشكال اقليدس ما يلزم مطلوبه بتوسط العمل فقط بين الوضع الأول(67) والرأي العام. وهذا ما وجب أن أذكره في هذه المقالة على سبيل المدخل إلى العلم الرياضي الذي هو الهندسة فواجب على كل مبتدٍ [ 57 ظ ] وقف على هذه المقالة ألا يتجاوزها حتى يتقن ما فيها ويتصوره تصوراً يثبت في فكره ويرسخ في فهمه ، فإنه متى فعل ذلك سهل عليه علم ما يحتويه كتاب اقليدس ولم يعسر عليه فهمه وتصور ما فيه . ولا يظنن مبتدٍ وقف(68) على علمه وتصوره شئ من أمور الرياضة التي هي الهندسة أن ذلك مما لا يمكنه الوقوف عليه أبداً فينفر منه ولا يعيد نظره فيه ، فإن ذلك يكون ظناً باطلاً لأن الإنسان المبتدئ بهذا العلم متى اعتاص على فهمه شئ من ذلك [ ف ] فكر ونظر فيه دفعةً بعد دفعة وصل إلى علمه والوقوف عليه لا محالة .
[ فضيلة علم الهندسة وفوائده ] : ولا يشكن أحد في فضيلة هذا العلم وعظيم فوائده ومنافعه فإنه علم به يلطف تصور الانسان ويحتد فهمه ويصفو ذهنه ويمضي ذكاؤه وتتهذب أخلاقه بنفي الأشياء التي لا حقائق لها وإثبات الأشياء الحقيقية وفيه من الأشياء والفوائد ما شرحته وغير ذلك مما لم تقتض المقالة ذكره لأنه سيقف عليه من أوغل في [ 58 و ] هذا العلم واتقن أصوله وتصرف في فروعه . وبه وبالمنطق يوصل إلى علم الأمور الطبيعية التي هي الحكمة ومبادئها وعللها وأسبابها وإلى علم الأمور الالهية ويوقف بذلك على حكمة الله تعالى ذكره في هيئة السماء والأرض وما بينهما فلزم بذلك إثبات الباري ، الإله ، تعالى ، حكيماً ، قادراً ، خبيراً .
فليبتد من شرع في طلب هذا العلم الرياضي بالوقوف على هذه المقالة والتفهم لها واتباع ذلك بالنظر في كتاب اقليدس معتمداً الصبر(69) على تأمله وتصوره مطرحاً للنفور والإعراض عما يستهجنه من ذلك أو يدق على فهمه منه ويمضي فيه على رسله فإنه يفيد بذلك جزءاً عظيما من أجزاء السعادة يحدوه(70) على التوصل إلى إفادة ما في أجزائها . [ الحكمة تحقق إنسانية الإنسان ] : فإن الإنسان في حكم البهيمة ما لم يشد شيئاً من علوم الحكمة وذلك أن البهيمة ليس له (71 م) من ذاته مانع عن اتباع شهوة ما يهواه . وكذلك الإنسان الخالي من علوم الحكمة ليس له ( 58 ظ ) من ذاته مانع عن اتباع شهوة ما يهواه ، ولذلك احتاج العوام [ إلى ] الحكمة النبوية لأن الحكيم إنما تحدوه أن يفعل الخير لذات الخير لا لطلب المجازاة عنه وتمنعه من فعل الشر لذات الشر لا خوفاً من المعاقبة عليه . ومن لم يبلغ هذه الرتبة فإنه يرى أن الخير إنما (72) يجب أن يفعل طلباً للمجازاة عنه فهو يحتاج إلى أن يحث على فعل الخير بأن يوعد بالمجازاة التي تكون عنه ويرى أن الشر إنما يجب ترك فعله خوفاً من المعاقبة عليه ، فهو يحتاج إلى أن يحث على ترك فعل الشر بأن يخوف بالمعاقبة المؤلمة عليه .
[ أقسام العوام الذين لم يحصلوا الحكمة ] : فلذلك ينقسم العوام الذين نسوسهم ثلاثة أضرب : ضرب يتحقق (73) الوعد والوعيد ويألفه ويرضى به ، بعاجله وآجله فيعتمد ويأخذ نفسه كالبهيمة المحمودة الطباع إذا ردعتها بالتخويف الشديد عن شئ ثبت ذلك في نفسها فلم تعاود إليه . وضرب يتحقق ذلك لكن لا يرضى بالآجل فيطلب العاجل ويوطن نفسه على ما يكون من عواقبه فلا يعتمد تحققه(74) [ 59 و ] ولا يأخذ نفسه به ، كبهيمة السو(75) ، وكلما هولت عليها بالتخويف من شئ ازدادت انبعاثا فيه . وضرب يشك في ذلك ولا يقطع عليه بأنه حق أو باطل فهو إنما يأخذ نفسه به لصحبةٍ واعتيادٍ له ، وإما أن يأخذ نفسه به تغليباً لبطلانه أو يرضى مع تسليمه(76) بما في عواقبه كالبهيمة التي ليست في رتبة الحمد ولا في رتبة الذم من جهة الطباع إذا خوفتها من شئ أو ردعتها عنه امتنعت منه تارةً وجرت فيه أخرى .
فإذ قد استوفيت حق الإيضاح في ثمرة الحكمة وفوائدها وقلت في القول الرياضي قولا على جهة المبدأ والمدخل كافياً مقنعا فيما قصدت له فبالواجب أن أختم المقالة حيث انتهيت ، وبالله استعين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على أنبيائه ورسله أجمعين .

ليست هناك تعليقات: